صار لي اكثر من سنتين أفكر في موضوع الرحلة مقابل المحطة أو محطة الوصول… اعتقد ان وسائل المواصلات والتواصل الحديثة ولأول مرة في تاريخ البشرية أرغمت الانسان ضد فطرته على ان يفكّر دائما في محطة الوصول وليس الرحلة الى الوصول فعلى سبيل المثال، كان الناس قبل السيارات يرتحلون الى المدينة في ١٠ ايّام اما الْيَوْمَ فيصلون في ٣٠ دقيقة… دعونا نفكر في ذلك قليلا أو مليئا، فعندما كان الرجل (وهنا المعنى كل من ارتجل وهذا يشمل النساء) يقدم على الرحلة كان امر كبير، من سيكون في الرحلة، كم من الطعام والماء احتاج، ماذا اترك لأهلي، ماذا لو لم أعد بسبب مرض أو قطّاع طريق أو جهد او حتى طول سفر، كان التفكير يرتكز على الرحلة وليس المحطة لان كثير من الذين ارتحلوا في الماض، اما لم يصلوا او اذا وصلوا لم يعودوا ولذلك فكان الأمر مرتكز على الرحلة وليس المحطة والامر ينطبق أيضا على التواصل فكانت الرسائل تأخذ شهور حتى تصل الى محطتها فكان للرسالة أهمية كبرى حيث انها لزمت ان تخبر بالكثير فكان الرجل يكتبها ايّام وأيام تكون شاملة كاملة مخبرة بالكثير فكانت كتابة الرسالة رحلة، اما الْيَوْمَ فرسائلنا قد تكون بقصر “لول” و “ههههه” و 🤗 و ، و
اذا ما هو الفرق؟ وما تأثير ذلك على البشرية، يقول علماء النفس ان العقل البشري في تطور مستمر وانا المخ يعيد تركيبته (rewiring of the brain) حسب البيئة وما يتعرض له من احداث صغيرة وكبيرة، واعتقد ان بيئة سرعة الوصول والتواصل قد احدثت تغيرا كبيرا في المخ وبهذا تأثير كبير ويكاد يكون خطير على سلوك البشرية اسرده كالتالي
اولا: اصبح هم الانسان محطة الوصول وليس الرحلة والخطورة في ذلك ان الانسان يركز على النتائج السريعة حتى وان كانت تافهة (quick wins)وذلك لان المخ اعتاد على المحطة، ان النتائج الكبيرة والتي تغير من مسيرة البشرية رحلة شاقة وطويلة يحتاج الانسان فيها العمل الدائم من غير النظر الى النتائج او توقع حصولها حتى في حياته، ومن اعظم الأمثلة على ذلك حياة النبي ﷺ حيث أفنى ثلاث وعشرون عام من حياته نذيرا وبشيرا، لم يقضي يوما لم يدعوا فيه الى الله حتى لاقى ربه، و قد ذكّره رب العالمين بذلك كثيرا في حياته قائلا له في مواطن كثيرة، ليس عليك الا ان تركز على رحلة الدعوة وليس نتائجها، “إنما عليك البلاغ” ﴿وَإِمّا نُرِيَنَّكَ بَعضَ الَّذي نَعِدُهُم أَو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَينا مَرجِعُهُم ثُمَّ اللَّهُ شَهيدٌ عَلى ما يَفعَلونَ﴾ اَي يا رسول الله، بلغ واترك علينا النتيجة، فلم يكون النبي ﷺ حيا بمفهومنا للحياة عندما ملكت أمته العالم، ثلاث وعشرون عاما من التبليغ لم تظهر نتائجها الا بعد عشرات السنين من انتقال النبي ﷺ الى ربه وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
ثانيا: قلة الصبر، في عالم يتسارع فيه كل شي، أصبحت قدرتنا على الصبر محدودة جدا, من ٢ ميجابايت الى ٥٠ ميجابايت وتصبح ال ١٠٠ ميجابايت بطيئة في نظرنا, الرحلة التي كانت تأخذ أسابيع ولا يصلها الا القليل، أصبحت طويلة في اذاهننا وهي ٤ ساعات نأخذ فيها الأيباد والأيفون والشحن الاضافي ونؤقت ما نشاهده من برامج مثل Game of Thrones ليتساجم مع رحلاتنا حتى نضيّع الوقت في السفر ولا ينطبق ذلك فقط على الوصول بل على التواصل، الرسائل التي كانت تأخذ ايّام وأسابيع وأشهر، اصبح انتظارها طويلا على الإيميلات والواتس اب (كنت اونلاين وطلعلي ٢ صح ازرق وما جاوبت عليا الا بعد ساعتين!!!)، اصبح الصبر امر من أمور الماضي ليس له وجود في عالمنا الْيَوْمَ الا من رحم ربي
وأخيرا، فإن لي طقوس كل رمضان في التخلي عن جميع وسائل التواصل الاجتماعي ولمدة رمضان كله، اقضي البضع ايّام الاولى منه ضائعا وكأن شيئا قد سلب مني ثم تأتي الثمار في الأسبوع الأول، يتغير فيه سلوكي تماما، تكثر فيه قرأتي للكتب الورقية ويزداد فيه صبري و تفاعلي مع من حولي، تكثر فيه التأملات ويزداد فيه الوعي بما حولي، تزداد بركة الوقت و يصفوا الذهن، كم أتمنى ان أبقى على هذا الحال ولكن ليس عندي الصبر
عيسى عبد الوهاب بوقري